"أنت ماكش مربي ( أي منعدم التربية ) .
أنت ما تحشمش ( أي لا تستحي ) " :
في يوم من الأيام منذ أكثر من 10 سنوات كنتُ أريدُ أن أنتقلَ من محطة المسافرين – عبر السيارة – إلى وسط مدينة قسنطينة . وكانت في السيارة امرأةٌ ومعها ولدٌ في ضواحي السنة العاشرة من عمره . وأثناء انتظار سائق السيارة ( من خارج السيارة ) لشخص رابع وأخير , وضعتُ أنا شريطا للأناشيد لـ " عماد رامي" في مُسجلة السيارة بدون إذنِ السائقِ . وعندما دخلَ الراكبُ الرابع السيارةَ سمع السائقُ صوتَ المسجلةِ , وبدون أن يتأكد من أن الشريطَ الموجود داخلَ المسجلة ليس شريطا من أشرطته هو ( التي كانت خاصة بالأغاني الخليعة والماجنة ) , أوقفَ المسجلةَ عن العملِ واستدارَ إلي وهو يقولُ لي غاضبا " أنت ماكش مربي , أنت ما تحشمش !!!" ( وهي كلمة ثقيلة جدا ومؤلمة جدا عندنا نحن في لهجة الجزائريين ) . كظمتُ غيظي وحاولتُ أن أقابلَ السيئةَ بحسنة أو على الأقل أن أقابلها بلا شيء .
قلت له " لماذا ؟! " فقال " تفعل ما فعلتَ ثم تتمادى في غيك وتسألني لماذا أغضبُ ؟!. أليست لك بقية من حياء تمنعك من عرض ما لا يليق من الغناء على العائلة – المرأة والولد - الراكبة في الخلف . ألا تستحي يا هذا !؟. إذا لم تحترم نفسَك فعلى الأقل قليلا من الاحترام للعائلة الراكبة معنا !". قلتُ له – وأنا مالكٌ تماما لأعصابي - وقد بدأتُ أفهمُ الحكايةَ " أنا يا هذا لا أسمعُ غناء لا يليق لا أمامَ عائلة ولا وحدي . أنا لا أسمعُ في حياتي إلا أناشيد دينية أو غناء طيبا ونظيفا , وأما الساقط والهابط من الغناء فلا أسمعه ولو كنتُ معزولا في غابة بعيدا عن كل البشر " .
نظر إلي بتعجب وقال " ما أشد جرأتك . تُسمِع العائلةَ غناء فاسدا ثم تدعي بأنك لا تسمعُ إلا طيبا !". قلتُ له " أدخِلْ الشريطَ من جديد وستسمعُ ما كنتُ وضعتُه لي ولك وللعائلة ". أدخلَ السائقُ الشريطَ من جديد فسمِع – على خلاف ما توقع - عماد رامي يغني عن فلسطين وعن اليهود وعن المسلمين وعن ... فتعجبَ وزاد من حجم الصوتِ وقال لي " من أين جاء هذا الشريط ؟! " قلت له " هو لي . أنا دوما آخذُ في سفري أشرطة للأناشيد الدينية أستمعُ إليها في الطريق – إلى جانب سماع القرآن - من خلال السيارة أو الحافلة...". قال لي متعجبا " وأين أشرطتي أنا ؟!" , فقلت له " هي هنا " وأشرت إلى مكانها بجانب المسجلة . قال " إذن أنتَ وضعت شريطَك وليس شريطي أنا " , قلتُ له " نعم " . تغير لونُ وجهه ( لأنه ندم على ما قال لي ) , وزاد من حجم الصوت مرة أخرى ليسمع هو وأنا والعائلةُ الأناشيدَ الجميلة لعماد رامي ثم استدار إلي خجِلا وقال وهو مطأطئ الرأس" أعتذرُ إليك كثيرا يا شيخ على ما بدر مني من كلام لا يليق ومن تهم باطلة ومن ..." , فقاطعتُه " أنت معذورٌ ونصف معذورٌ . سامحنا الله جميعا دنيا وآخرة ".
ومع ذلك فإن الرجلَ قطع كل ما تبقى من الطريق بين محطة المسافرين ووسط المدينة وهو يعتذرُ إلي ثم يعتذر لأنه ندم ندما شديد على ما قال لي وخاصة عن قوله " أنت ماكش مربي ...أنت ما تحشمش ".
ومن فوائد هذه الوقفة :
1- أن المنحرف قد يعرفُ أنه منحرفٌ ولكنه يعصي لا بسبب الجهل بالإسلام , بل بسبب ضعف الإيمان .
2- أن المؤمن إذا حرص على الوقوف عند حدود الله , فإن الناس يحترمونه ويحبونه وإن لم يكونوا على نفس الدرجة من الطاعة لله .
3- إن كنتَ مستقيما وصادقا ومخلصا فإن الناس سيحبونك ولو بعد حين . وأما إن كنتَ منحرفا وكاذبا فإن الناس سيكتشفون حقيقتك وسيكرهونك ولو بعد حين .
4- ما أحلى أن يقابل المؤمنُ سيئة الغير معه وفي حقه , أن يقابلها بالحسنة . إن اللذة التي يجدها المؤمن وهو يحسن إلى من أساء إليه أعظمُ مليون مرة من اللذة التي يجدها وهو ينتقم ( حتى ولو انتقم بطريقة جائزة من الناحية الشرعية , أي بأن قابل السيئة بمثلها ) .
5- كل واحد منا يتمنى في حياته أن لا يظلِـمَ وأن لا يُظلَمَ , ولكن إن كان لا بد من أحدهما فلأن يُظلَـمَ المؤمنُ أفضلُ له عند الله مليون مرة من أن يَظْلِـمَ .
6- الكثيرُ من عامة الناس , ورغم انغماسهم في المعاصي فإن فطرتَـهم - التي ما زالت سليمة - تجعلهم يحترمون العائلاتِ ويحترمون النساءَ , ومنه فإنهم يحرصون على تنـزيه آذانِ النساء عن سماع ما لا يليق وما لا يجوز من الغناء الساقط والمائع والمنحل .
والله أعلم بالصواب .