بسم الله الرحمن الرحيم
تعد مدينة الرصافة من أعرق المدن التاريخية وأكثرها أهمية، وتبعد 40 كم جنوب غرب الرقة، وقد شيدت فوق منطقة تضم بعض المرتفعات.
وجاء أول ذكر للرصافة في الحوليات الآشورية في عام 900 ق.م واتخذت كمنطلق للغزوات، وكنقطة عسكرية في البادية بهدف الحفاظ على الأمن والاستقرار بين القبائل المحيطة بها، وذكرت تحت اسم رسيف وتعني (الحجر البراق الذي لم ينضج جيولوجياً بعد).
وارتبطت الرصافة بمدينة الرقة القديمة بطريق روماني قديم أطلق عليه طريق هشام، ويمكن القول إنه كان من الممكن ألاّ نعرف الكثير عن تاريخ الرصافة لو لم يقع فيها حادث استشهاد القديس سرجيوس، وهو ضابط سوري من أوائل الذين اعتنقوا المسيحية في منطقة وادي الفرات، والذي لقي أشد الاضطهاد مع رفيقه باخوس في سبيل عقيدته، وكان آخرها إجباره على السير فوق مسامير حادة وضعت في حذائه لمسافة 30كم ثم أعدم بقطع رأسه في عام 350م.
وقد أكرمت المدينة شهيدها حيث ضمت رفاته (سرجيوس) تقديراً له، ثم أقامت فوق قبره كنيسة، حوّلها فيما بعد جماعة من الأساقفة إلى "بازليكا" تخليداً لذكراه التي أصبحت فيما بعد مزاراً لجميع الحجاج من جميع أنحاء العالم الغربي والعربي.
وتضم مدينة الرصافة مجموعة من الكنائس البيزنطية وعددها سبع، وأكبرها البازليكا الواقعة في الجهة الجنوبية الشرقية من المدينة والتي يعود بناؤها إلى القرن السادس الميلادي (559م) وللمدينة سور طوله 3كم مكون من دورين ويتكئ على أكثر من خمسين برجاً لها أشكال هندسية مختلفة، وفي العصر الأموي جدد الخليفة هشام بن عبد الملك خزانات المياه وكنائس المدينة ودورها وسورها بعد تعرضها للدمار من قبل الفرس في القرن السادس الميلاي، كما بنى فيها جامعاً ملاصقاً للكنيسة من الجهة الشمالية، وبنى هشام المدينة الإسلامية خارج أسوار الرصافة وأطلالها تقع بين ثنايا الأكمات والتلال المحيطة بالمدينة, وللمدينة أربع بوابات أهمها البوابة الشمالية ذات المداخل الثلاثة والفن الزخرفي البديع.
وقد كانت الرصافة مركزاً لمرور القوافل منذ القرن التاسع قبل الميلاد، ومقراً لحاكم آشوري سيطر على طرق التجارة ومناطق استيطان القبائل حولها، وأقدم نص ذكرها باسم (را ـ سا ـ با) يعود إلى عام 840 ق.م، وذكرها بطليموس كإحدى مدن منطقة تدمر، كما جاء ذكرها في جداول برينجر على الطريق الرومانية بين دمشق وتدمر والطيبة باتجاه الفرات، لتصبح بعد عام 293م تابعة لمقاطعة الفرات، وتقيم فيها حامية رومانية تؤمن سير القوافل القادمة من تدمر والذاهبة إليها وإلى دمشق وغيرها من المدن لتصل إلى البحر المتوسط.
إن تخطيط مدينة الرصافة هو نموذج للمدن الهيلينية من حيث كونها مستطيلة الشكل مما استعمله الرومان كثيراً في مدن الإمبراطورية الواسعة، وأهم صفات هذا التخطيط، وجود الأسوار والشارعين المتقاطعين بشكل متعامد ليوصلا بين البوابات، إضافة إلى الشوارع الثانوية المتقاطعة بشكل شطرنجي مع مجموعة من الأقنية وصهاريج المياه والأبنية المختلفة.
أسوار الرصافة
وتأخذ شكلاً مستطيلاً غير منتظم الأضلاع، وقد بنيت هذه الأسوار على طبقتين وكان ارتفاعها 13،5 م تتخللها الأبراج الدفاعية وعددها 54 برجاً تنتهي زواياها بأبراج دائرية، وقامت داخل جسم السور طريق دائرية تمكن الجنود من الانتقال بسرعة للدفاع عن النقاط الضعيفة في جهات المدينة الأربع.
كنيسة القديس سرجيوس
وهي إحدى أهم الكنائس في مدينة الرصافة، ويعتقد أن هذه الكنيسة قد بنيت ما بين القرنين الخامس والسادس الميلاديين، وتمتاز بتيجانها الكورنيثية المحورة، وإحدى هذه التيجان مزينة بأكاليل منحوتة وتعتبر فريدة من نوعها.
قصر المنذر بن الحارث الغساني
يقع القصر خارج أسوار مدينة الرصافة، إلى الشمال الشرقي من بوابة المدينة الشمالية، وأبعاده 20 × 17م، وكان القصر مقراً لاجتماع القبائل، ويعتقد أن رفاة القديس سرجيوس قد دفنت فيه ونقلت فيما بعد إلى كنيسة الشهادة ثم إلى حيث تقوم كاتدرائية سرجيوس حالياً، ويقال إن المنذر بن جبله الغساني قد دفن في هذا القصر، وفي صدر الحنية الرئيسية هناك كتابة بالأحرف اليونانية وتمنيات النصر تخليداً لذكرى انتصارات المنذر على اللخميين.
وقد قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بعمليات ترميم واسعة لآثار مدينة الرصافة، شملت الكنيسة الكبيرة والبوابات والسور، وما زالت المدينة بحاجة إلى عمليات ترميم أخرى في مواقع متعددة من السور والأبراج، ويقوم المعهد الأثري الألماني بدمشق بالتعاون مع دائرة آثار الرقة بتنقيبات أثرية في المدينة منذ عام 1950.